رغم أن خفض الاتحاد الأوروبي اعتماده على الغاز الروسي، إلا أنه ما زال يتدفق إلى بلدان التكتل بما في ذلك عبر خطوط تمر من أوكرانيا. ويعزو مراقبون ذلك إلى عدة أسباب. فهل باتت الظروف مواتية لفرض حظر شامل على الغاز الروسي؟
بعد مرور أكثر من عامين على الغزو الروسي لأوكرانيا، ما زال الغاز الروسي يتدفق في أنحاء الاتحاد الأوروبي. فرغم أن التكتل عمد إلى خفض استيراد الغاز الروسي، إلا أن بعض المنازل والشركات الأوروبية مازالت تعتمد على مصادر الطاقة الروسية ما يعزز خزائن الكرملين.
ومع بدء روسيا توغلها العسكري داخل الأراضي الأوكرانية أواخر فبراير 2022، استيقظت الحكومات الأوروبية على كابوس اعتمادها الراسخ على الغاز والنفط الروسيين، إذ كان الغاز الروسي يلبي نسبة 34 بالمئة من احتياجات أوروبا من الغاز عام 2021.
وقبل الحرب، كانت بلدان شرق ووسط أوروبا تعتمد بشكل خاص على مصادر الطاقة الروسية. وعندما طرح الاتحاد الأوروبي حظر الغاز الروسي، سارع المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الرفض، قائلا في حينه: « لقد قرر الاتحاد الأوروبي استثناء إمدادات الطاقة الروسية من العقوبات. وفي الوقت الحالي، لا يمكن تأمين إمدادات أوروبا من الطاقة بأي طريقة أخرى ».
وقد استغل فلاديمير بوتين هذا الأمر، إذ أنه خلال عام 2022، أقدم على خفض معدلات تصدير الغاز إلى أوروبا. ورغم القلق الذي انتاب الحكومات الأوروبية من حدوث أزمة طاقة تربك الحسابات في فصل الشتاء، إلا أن هذه المخاوف لم تُترجم على أرض الواقع.
بيد أن خبراء يقولون إن القضية التي يجب أن تحظى بالأهمية تتمثل في عدم قيام الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات على الغاز الروسي.
وفي مقابلة مع DW، قال بنجامين هيلجنستوك، الخبير الاقتصادي في كلية كييف للاقتصاد، « لم نفرض عقوبات (على الغاز الروسي) على الإطلاق. لقد كان قرارا طوعيا وذكيا من قبل الدول لتنويع إمدادات الطاقة والحيلولة دون تعرض الاتحاد الأوروبي للابتزاز الروسي ».
الغاز الطبيعي المسال؟
وكشفت بيانات الاتحاد الأوروبي عن انخفاض حصة الغاز الذي تستورده الدول الأعضاء عبر خطوط الأنابيب الروسية من 40% عام 2021 إلى حوالي 8% عام 2023، لكن عند الحديث عن الغاز الطبيعي المسال، فإن حصة الغاز الروسي من إجمالي احتياجات الاتحاد الأوروبي قد بلغت 15 بالمئة العام الماضي.
يُشار إلى أن واردات الغاز المسال كانت واحدة من أهم الطرق التي اعتمد عليها الاتحاد الأوروبي في تقليل اعتماده على الغاز الروسي إذ سعى التكتل إلى زيادة واردات الغاز الطبيعي المسال من دول مثل الولايات المتحدة وقطر. بيد أن هذا المسار أدى في نهاية المطاف ومن دون قصد إلى زيادة تدفق الغاز الطبيعي الروسي المسال بأسعار مخفضة إلى البلدان الأوروبية.
فقد أفادت شركة كبلر لتحليل البيانات بأن روسيا تعد ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي المسال للاتحاد الأوروبي إذ شكلت واردات الغاز الطبيعي المسال القادمة من روسيا نسبة تجاوزت 16% من إجمالي إمدادات الاتحاد الأوروبي من الغاز الطبيعي المسال العام الماضي.
ويمثل ذلك زيادة بلغت 40 بالمئة عن عام 2021.
ورغم انخفاض الواردات العام الماضي عن العام الذي سبقه، إلا أن بيانات الربع الأول من العام الجاري تُظهر أن صادرات الغاز الطبيعي المسال الروسي إلى أوروبا ارتفعت مرة أخرى بنسبة 5٪ على أساس سنوي حيث احتلت فرنسا وإسبانيا وبلجيكا الصدارة حيث حصلت الدول الثلاث على نصيب الأسد من إجمالي الغاز الطبيعي المسال الذي استورده الاتحاد الأوروبي العام الماضي بما يصل إلى 87 بالمئة.
وقف « الشحن متعدد الجنسيات »
وفي سياق متصل، يقول مراقبون إن السوق الأوروبي لا يحتاج إلى هذا القدر الكبير من الغاز الطبيعي المسال الذي يتم تفريغه في بعض الموانئ الأوروبية قبل إعادة تصديره إلى دول أخرى مما يحقق أرباحا لبعض دول الاتحاد الأوروبي والدول الشريكة.
وفي ذلك، قال هيلجينستوك إن الكثير من الغاز الطبيعي المسال الروسي « الذي يصل إلى أوروبا يتم شحنه إلى دول أخرى ما يعني أن الأمر لا يرتبط بإمدادات الغاز الطبيعي في أوروبا. الشركات الأوروبية فقط هي التي تجني المال من خلال تسهيل تصدير الغاز الطبيعي المسال الروسي ».
وقد أفاد تقرير صدر مؤخرا عن مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف بأنه جرى نقل ربع واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال من روسيا بما يشكل 22 بالمئة إلى الأسواق العالمية العام الماضي. وفي مقابلة مع DW، قال بيتراس كاتيناس، الخبير في المركز، إن الدول الأسيوية تستقبل الغاز الطبيعي المسال الروسي الذي يصل أوروبا.
وعلى وقع ذلك، تمارس السويد وفنلندا ودول البلطيق وبلدان أخرى في الاتحاد الأوروبي الكثير من الضغوط على التكتل لفرض حظر كامل على الغاز الطبيعي المسال الروسي في خطوة تتطلب موافقة كافة الدول الأعضاء.
ويدور النقاش بشكل رئيسي حول فرض حظر على عمليات إعادة تصدير الغاز الطبيعي المسال الروسي من الموانئ الأوروبية فيما قالت وكالة بلومبرغ إنه يتم النظر في فرض عقوبات على مشاريع الغاز الطبيعي المسال الروسية الرئيسية مثل مشروع « أركتيك- 2 » ومركز للغاز الطبيعي المسال في منطقة مورمانسك شمال روسيا.
وقال الخبير الاقتصادي هيلجنستوك إنه « يجب حظر الغاز الطبيعي المسال الروسي، لأنه لا يلعب أي دور هام في تعزيز إمدادات الغاز الأوروبية فيما يمكن استبداله بسهولة من دول أخرى ».
ورغم ذلك، حثت شركة أيسر، الجهة المنظمة للطاقة في الاتحاد الأوروبي، على ضرورة أن يتم خفض واردات الغاز الطبيعي المسال القادمة من روسيا « بشكل تدريجي » لتجنب حدوث أزمة طاقة جديدة.
ورغم توقف خطوط « نورد ستريم » و »يامال-أوروبا »، إلا أن الغاز الروسي مازال يتدفق إلى مصب بومغارتن الغازي في شرق النمسا عبر خطوط الأنابيب التي تمر عبر أوكرانيا فيما ترتبط شركة « أو. إم. في » النمساوية بعقد مع شركة الغاز الروسية العملاقة « غازبروم » حتى عام 2040.
وفي فبراير/شباط الماضي، أكدت النمسا أن روسيا كانت مصدر 98 بالمئة من وارداتها من الغاز في ديسمبر الماضي، مشيرة إلى أنها ترغب في فسخ العقد المبرم مع غازبروم في أقرب وقت ممكن، لكن خبراء يقولون إن فرض عقوبات أوروبية على الغاز الروسي يعد خطوة ضرورية حتى يتم ذلك بشكل قانوني.
وعلى غرار النمسا، تمضي المجر قدما في استيراد الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب بكميات كبيرة حيث أبرمت بودابست اتفاقية حول إمدادات الغاز الطبيعي مع تركيا، لكن الخبراء يقولون إن الغاز الذي يمر عبر خط « ترك ستريم » يأتي أيضا من روسيا.
وقال الخبير الاقتصادي هيلجنستوك إن بعض الدول استمرت في شراء الغاز الروسي لأنها تستفيد من الخصومات، مضيفا « سيظل الأمر متروكا لهذه الدول ما لم يتم فرض حظر على الغاز الطبيعي الروسي ».
وترى النمسا والمجر وغيرها من الدول التي مازالت تستورد الغاز الروسي أن الأمر في أيدي أوكرانيا. يُشار إلى أن كييف تصر على أنها لن تجدد الاتفاقات القائمة التي أبرمتها مع شركة غازبروم التي تسمح بتدفق الغاز الروسي عبر أراضيها وسارية حتى نهاية العام الجاري.
هل حان وقت الحظر؟
ورغم أن أوروبا مازالت تستورد الغاز الروسي، إلا أن حصته من واردات الغاز الأوروبية انخفضت بشكل كبير منذ عام 2021 فيما يقول مسؤول الاتحاد الأوروبي إنهم يريدون الانتهاء التام من الاعتماد على الغاز الروسي بحلول عام 2027.
ويرى هيلجنستوك أن هذا الهدف يبدو واقعيا، مضيفا « أعتقد أن هذا الأمر السخيف كشف لنا عن جانب وحيد يتمثل في أننا لا نستطيع في الواقع تنويع إمداداتنا من الغاز ومصادر الطاقة الأخرى بسرعة نسبيا بعيدا عن روسيا ».
ورغم ذلك، قال الخبير إن الظروف السياسية « ليست مواتية بشكل خاص » لفرض حظر كامل على الغاز في الوقت الحاضر وخاصة عبر خطوط الأنابيب، مشيرا إلى أن رئاسة المجر للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من عام 2024 قد تمثل عائقا محتملا في ضوء ارتباط بودابست الوثيق مع موسكو أقوى من معظم دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
وفيما يتعلق بالغاز الطبيعي المسال، يبدو أن هيلجنستوك أكثر تفاؤلا إذ يعتقد أن الأمر يقع على عاتق الدول التي تستورد الغاز الطبيعي المسال بكميات كبيرة مثل إسبانيا وبلجيكا. وقال إن « استيراد الغاز الروسي من الباب الخلفي يمثل مشكلة كبيرة، خاصة من حيث أنه يبعث برسالة مفادها أن الاتحاد الأوروبي يساعد روسيا على توسيع سلاسل توريد الغاز الطبيعي المسال. وهذا الأمر لا ينبغي أن يحدث ».